الأحدث

البنتاغون وتغير المناخ ما بين 1992 و 2004

د.م. سفيان التل.
تعودنا من المسؤولين العرب ومن يسمّون بمتخذي القرار ألّا يتخذوا قرارا وقائيا نافعا لتلافي حدوث كارثة أو جريمة، حيث إنّهم ينظرون إلى الأمور من وجهة نظر أمنية فقط. وبما أنّ القضايا الأمنية تتصدر أولوياتهم فقد عودونا أن لا يتدخلوا إلّا بعد وقوع الجريمة وليس لمنع وقوعها. لذلك فإنّ مقالا يتنبأ لهم بتغير المناخ وتأثيراته الكارثية على أرضهم ومياههم وزراعاتهم واقتصاداتهم لا يستحق في نظرهم القراءة، عداك عن التفكير بوضع الخطط للاحتياط للمشكلة ومحاولة التخفيف منها أو حلها قبل وقوعها .

منذ أوائل الثمانينات وأنا أحاضر وأكتب في القضايا البيئة، وخاصة تغير المناخ، وأنبّه وأحذر إلى أنّ العالم ونحن جزء لا يتجزأ منه، مقبل على كارثة تفوق الوصف، قد تجعل من كوكب الأرض كوكبا ميتا كالمريخ أو ملايين الكواكب مثله .

الكارثة من صنع الإنسان 

يتلخص موضوع التغير المناخي بأنّ الأنشطة البشرية أخذت تطلق كميات كبيرة من غازات الدفيئة إلى الجو، وهذه الغازات هي؛ ثاني أكسيد الكربون وغاز الميثان والنيتزوز والغازات الكلورية الفلورية الكربونية، وقد كونت هذه الغازات طبقة تشبه الغلاف البلاستيكي الذي يستعمل في البيوت الزراعية البلاستيكية، وتدخلت هذه الطبقة في درجة حرارة الأرض، وأخذت تعمل على تسخين المناخ وذوبان الجليد وهطول الأمطار والفياضانات في بعض المواقع من الأرض، والجفاف أو الرياح أو العواصف في مناطق أخرى. وهذا ما أخذت الفضائيات تنقله بشكل متواصل في مناطق مختلفة من العالم. وتشكلت لذلك منظمات كبرى تتبع الأمم المتحدة لمتابعة الظاهرة ورصدها واقتراح الحلول والعمل على تخفيف المشكلة.

مقال قبل اثني عشر عاما :

في عام 1992، وعندما كنت رئيسا لتحرير مجلة رسالة البيئة التي تصدر عن جمعية البيئة الأردنية، وفي عدد المجلة الثاني الصادر في أذار 1992، نشرت مقالا بعنوان: (الحديث عن الصقيع في الصيف)، ولخصت فيه ما يتوقع العلماء حدوثه على سطح الكرة الأرضية حسب ما توفر لديهم من معلومات حتى ذلك التاريخ .ولا أجد غضاضة في إعادة ذكر محاور التغيرات التي كانت متوقعة، والتي وردت في ذلك المقال، لأنّ كل محور يمثل خلاصة سلسلة من الأبحاث والدراسات التي تمت على مستوى العالم بمتابعة وإشراف من منظمات عدّة في الأمم المتحدة .

1. ستزداد درجات الحرارة في مناطق القطبين الشمالي والجنوبي، بمعدلات أكبر من معدلات ازدياد درجة حرارة الأرض .

2. ستواجه أوروبا الشمالية زيادة في درجات الحرارة، تتراوح ما بين 8-10 درجات مئوية.

3. ستحدث عواصف شديدة، وتغيرات جوهرية في معدل سقوط الأمطار، وفي نمط هذا السقوط .

4. سيحدث جفاف في بعض المناطق، وزيادة كبيرة في هطول الأمطار في مناطق أخرى، تؤدي إلى فيضانات الأنهار وتآكل التربة .

5. ستدفع العواصف والأعاصير العاتية والمدمرة، مياه الأنهار والبحار نحو اليابسة، لتغرق الأراضي وتدمر المباني .

6. ستتأثر الجزر المنخفضة والمناطق الساحلية، ويتحول بعضها إلى مناطق غير مأهولة، يتشرد عشرات الملايين من السكان عنها .

7. سوف تتهدد المدن والمناطق الحضرية المنخفضة.

8. ستتأثر الاراضي الزراعية المنتجة المعتمدة على الفيضانات.

9. سوف تتلوث أو تتملح موارد المياه العذبة.

10. ستتغير خطوط السواحل.

11. ستؤدي الفيضانات والعواصف الشديدة التي ستضرب بعض المناطق إلى اضطرابات اجتماعية، وخسائر اقتصادية هائلة، ومنها: مصر وبنغلادش والصين .

12. ستعاني موارد المياه من مشاكل كبيرة، ولا سيما المناطق القاحلة وشبه القاحلة.

13. ستشهد كثير من المناطق، زيادة في متوسط الأمطار، ورطوبة التربة، والمياه الجوفية والسطحية، وسوف تتغير أنماط استعمال المياه في الزراعة.

14. سوف يظهر انخفاض في الإنتاج الزراعي في بعض الأقاليم، مثل: البرازيل والساحل الإفريقي، وجنوب شرق آسيا، والمناطق الآسيوية من الاتحاد السوفياتي (السابق) والصين .

15. ستظهر زيادة في الإنتاج في أقاليم أخرى، نتيجة امتداد المواسم الزراعية.

16. ستظهر آفات مرتبطة بتغير المناخ تحتاج إلى تكنولوجيا جديدة ومتطورة وتغير في الإدارة الزراعية .

17. سوف تتشكل مناطق مناخية عديدة إلى عدة مئات من الكيلومترات باتجاه القطبين الشمالي والجنوبي، وستجد كثير من النباتات والحيوانات نفسها في نظم مناخية جديدة، ستؤثر عليها سلبا أو إيجابا، حسب قدرتها على التكيف. (الحديث عن الصقيع في الصيف – مجلة رسالة البيئة أذار 1992)، (د.م. سفيان التل البيئة والشباب – عمان 1995)

ما الذي حدث بعد 1992؟

لا شكّ في أنّ الذين تابعوا موضوع التغيرات المناخية قد شاهدوا خلال الاثني عشرة سنة المنصرمة، معظم ما وردّ في هذه المحاور على شاشات التلفاز. فقد ارتفعت درجة حرارة القطبين الشمالي والجنوبي وتشققت الجبال الجلدية وتحرك كثيرا منها مع المياه، كما ازدادت درجات الحرارة في أوروبا، ووصلت إلى زيادة في المعدل تقارب عشر درجات مئوية، وهذه هي الأرقام التي تنبأت بها النماذج الكمبيوترية. كما شاهدنا عواصف شديدة وفيضانات اجتاحت كثيرا من دول العالم، وشاهدنا جفاف في مناطق أخرى قضى على الزرع والضرع. ودفعت الأعاصير والعواصف مياه الأنهار والبحار إلى اليابسة، وانهارت أو جرفت التربة، وشاهدنا جثث الضحايا من الإنسان والحيوان والنبات تطفو على مياه الفيضانات أو تغرق في الطين والوحل، وتشردت أعداد كبيرة من البشر .
وغرقت بعض المدن والمناطق الحضرية في مياه الفيضانات، كما قضى على المحاصيل الزراعية في مساحات شاسعة من الأرض … وهناك الكثير الكثير مما حدث ويصعب الإحاطة به في مقال كهذا . وتقوم الأمم المتحده وبالتعاون مع مختلف دول العالم برصد هذه التغيرات وتسجيلها عاما بعد عام.

بروتوكول (كيوتو) ومحاولة تخفيف المشكلة:

من ضمن سلسلة المؤتمرات الدولية التي عقدت بتنظيم من الأمم المتحدة، لمحاولة التخفيف من وطأة الكارثة؛ كان المؤتمر الثالث للأطراف، والذي عقد في مدينة (كيوتو) في اليابان عام 1997، وتمخّض عن (بروتوكول كيوتو).

ويتلخص هذا البروتوكول في اعتماد مستوى غازات الدفيئة الذي كانت مطلقة من دول العالم المختلفة عام 1990، كخط أساس يجب أن يبدأ تخفيفه لدى الدول التي تطلق كميات كبيرة منه، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية 36%، ودول الاتحاد الأوروبي مجتمعة 24%، وروسيا 17%، واليابان 8.5%. وحتى يصبح هذا البروتوكول ملزما لا بدّ أن توقعه 55 دولة، يبلغ مجموع الغازات المنبعثة منها 55% من الغازات المنبعثة من دول منظمة التعاون الاقتصادي والثقافي  OECD، ودول التحول الاقتصادي في شرق أوروبا ودول الاتحاد السوفياتي. وقد أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية انسحابها من هذا البروتوكول عام 2001. ولكن الاتحاد الأوروبي واليابان ودول صغيرة أخرى التزمت بشروط هذا البروتوكول. وعندما أقرّت روسيا في نهاية عام 2003 هذا البروتكول تجاوزت نسبة الغازات المنبعثة 55%، وهذا ما يجعل تطبيقه أمرا ملزما ولو من الناحية القانونية. (راجع، هشام الخطيب – تأثير الطاقة على التنمية المستدامة. كتاب تحت الطبع في سلسلة كتب عالم البيئة الصادرة عن جائزة زايد الدولية للبيئة)

ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ الرئيس الأمريكي (بوش)، والذي أعلن انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من هذا البروتوكول، واقع تحت تأثير الشركات الكبرى في الولايات المتحدة، وأن انسحابه هذا قد ألّب البيئيين في العالم عامة والولايات المتحدة خاصة عليه، حتى إنّ حضور (كولن بأول) في قمة البيئة والتنمية المستدامة والذي عقد في جوهانسبرغ عام 2002، قد أثار اشمئزاز عدد كبير من جمعيات البيئة في العالم، ومنها الأمريكية، وحاولوا أن يمنعوه من الحديث، وفاجأوا إدارة المؤتمر برفع يافطة في داخل القاعة، تقول: لا تدعوا الشركات تحكم العالم. وكانت فرصة ذهبية للبيئيين، إذ كانت الصحافة العالمية في داخل القاعة، ونقلت الحدث. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ جميع الدول النفطية العربية لم توقع ولم تلتزم بهذا البروتوكول، بالرغم من أنّ حجم الغازات المنبعثة فوق مدن النفط قد فاق كل توقعات التلوث .

تقرير سرى أمريكي عام 2004 للمقارنة:

تسرّب أو سُرّب تقرير سري من وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون في شباط – فبراير 2004، ويشير هذا التقرير لمعظم النقاط التي سبق وأوردتها في بداية المقال، والتي نشرت عام 1992. ويتحدث التقرير أنّ سيناريو لتغير مناخي كارثي يبدو وشيكا ومعقولا، وسوف يشكّل تحديا للأمن القومي الأمريكي، مما يستوجب أخذ الموضوع بنظر الاعتبار بدون تأخير. ومن ضمن الكوارث التي يتوقعها التقرير تدمير الحواجز الساحلية في هولندا وكاليفورنيا، وهجرة سكان مدنا كبرى، مثل؛ لاهاي، وتصبح بنغلادش غير صالحة للسكن. وسيحدث في المستقبل القريب نقص كبير في الماء والطاقة يصعب التغلب عليه، مما يؤدي إلى الحروب. ويحذر التقرير من موجات الجفاف العاتية التي ستؤثر على إنتاج الحبوب، وتلاشي التربة في كل من أمريكا والصين. ومع بداية عام 2010 سترتفع درجة الحرارة لتزيد عن 32 درجة مئوية في ثلث أيام السنة لكل من أوروبا وأمريكا، وبعد عقد من ذلك التاريخ، أي بحلول عام 2020، ستبدأ درجة الحرارة بالانخفاض بمعدل 3.5 درجة مئوية عن متوسط درجة الحرارة السنوية. وسيصبح مناخ أوروبا أشبه بمناخ سيبيريا. وسوف تنتشر الأسلحة النووية نتيجة التناحر بين الدول. ويشير التقرير إلى أنّ كل من اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا ستطوّر قوة نووية، وكذلك كل من إيران ومصر وكوريا الشمالية. أمّا إسرائيل والصين والهند وباكستان، فسوف تتأهل لاستعمال القنبلة النووية .

أهمية هذا التقرير 

إذا كان (بوش) قد تنكّر لموضوع تغير المناخ، وانسحب من بروتوكول (كيوتو)، الذي يهدف إلى التخفيف من حدّة المشكلة، فإنّه بالتأكيد لن يستطيع التنكّر لتقرير من البنتاغون، وخاصة عندما يشير هذا التقرير إلى أنّ الأمن القومي مهدد من تغير المناخ أكثر مما هو مهدد مما يسمّى بالإرهاب. (راجع مجلة البيئة والتنمية، العدد 75 يونيو 2004، بيروت)

فيلم يلخص المأساة فشاهدوه:

لم أتوقع أن أكتب في يوم من الأيام عن فيلم سينمائي، ولكن بعد هذا العرض الموجز لموضوع تغير المناخ شاهدت بالأمس فيلم (يوم بعد غد) THE DAY AFTER TOMORROW، وأنا أعتقد أنّ الفيلم موجه بشكل مباشر إلى الرئيس الأمريكي (بوش)، الذي يرفض الاعتراف بتغير المناخ، ويرفض تحت ضغط الشركات الأمريكية مشاركة العالم باتخاذ الإجراءات الضرورية للتخفيف من حدّة المشكلة أو الكارثة، أو محاولة تجنّب وقوعها. ويعرض الفيلم وبطريقة مشوقة جدا للبيئيين الرصد البيئي لتغير المناخ، والانقلاب من تسخين الأرض إلى الدخول في عصر جليدي مفاجىء وسريع، ترفض الإدارة الأمريكية في الفيلم الاعتراف به أو الإصغاء لرأي العلماء وتحذيراتهم بضرورة تهجير السكان قبل فوات الأوان، إلى أن فاجأتها كارثة الجليد وجمّدت الجزء الشمالي من أمريكا. وتحدث هجرة جماعية إلى المكسيك؛ هروبا من الجليد الذي يصل ارتفاعه إلى أربعة أمتار ونصف. وينتهي الفيلم بشكر الرئيس الأمريكي البلدان النامية التي قبلت استضافة مهاجريها، ويعفيهم من ديونهم تكريما لهم. والفيلم جدير بالمشاهدة، وإن لم يخلو من استغباء العرب كالعادة. وردنا على ذلك أننا سبقنا البنتاغون باثني عشر عاما، ونشرنا عام 1992، ما احتاج البنتاغون لاستيعابه حتى عام 2004. والبطولات الخنفشارية الأمريكية التي ظهرت في الفلم لم يعد يقبل بها أحد من الناس .