الأحدث

الحرية لموفق محادين وسفيان التل والقضاء للمتضررين

كتب: د. أحمد أبو مطر – أوسلو

تتفاعل في الشارع النقابي والشعبي والإعلامي الأردني قضية احتجاز الكاتب موفق محادين والناشط السياسي الدكتور سفيان التل، منذ صباح العاشر من فبراير 2010 في مركز (سجن) الجويدة للإصلاح والتأهيل، وذلك بناءا على قرار مدعي عام محكمة أمن الدولة الأردني على خلفية تهم كما قال تتعلق ب” الإساءة للأردن والجيش العربي ودماء الشهداء الأردنيين “. وسبب الاحتجاز كما وضحه الناطق الرسمي باسم الحكومة الأردنية الدكتور نبيل الشريف فإن ” مجموعة من المتقاعدين العسكريين كانت قد تقدمت إلى مدعي عام عمّان بشكوى ضد محادين والتل قبل أربعة أيام على خلفية تصريحات أدليا بها في برامج حوارية تلفزيونية “. وكانت هذه البرامج قد تناولت قضية الإرهابي الأردني همام البلوي الذي فجّر نفسه في معسكر تابع للاستخبارات المركزية الأمريكية في مدينة خوست الأفغانية في الثلاثين من ديسمبر 2009، مما أدى إلى مقتل ستة عناصر عناصر من الاستخبارات الأمريكية وعضو في المخابرات الأردنية هو الشريف زيد بن علي كان موجودا في المعسكر.

وبالتالي فالحكومة الأردنية بكافة أجهزتها التنفيذية لا علاقة لها بالقضية، لأنه كما أن للزميلين محادين والتل الحق في طرح آرائهما ومعتقداتهما، فالمتضررين من هذه الأراء من حقهم اللجوء للقضاء لرد الاعتبار لهم ولمن تضرر من ذويهم، خاصة أن المتقاعدين العسكريين رافعي الدعوى القضائية يمثلون ولو بشكل معنوي رمزي الجيش العربي الأردني الذي لا يختلف أردنيان على رمزيته كحام للوطن والشعب، وهو يتميز بأنه وقادته العسكريون لم يتدخلوا في الملفات السياسية للبلاد كغيرهم من جيوش عربية وأفريقية. وهنا من الضروري أن نكفّ عن نظرية المؤامرة التي تستدعي من البعض أن يقول أن الحكومة أوعزت للمتقاعدين العسكريين برفع الدعوى ضد محادين والتل، لأنه في سياق نظرية المؤامرة من المحتمل أن يدّعي البعض أن هناك جهات إقلمية أو أجنبية أوعزت لمحادين والتل أن يقولا هذه الأراء لتشويه صورة الأردن وسقف الحريات الديمقراطية فيه. إنني أدافع بشدة عن حرية الزميلين وضد احتجازهما، لكنني في الوقت ذاته أقول بصراحة من حق المتقاعدين العسكريين أو أي مواطن أن يلجأ للقضاء إن تضرر من هذه الأقوال.

 وهذا عرف موجود بشكل يكاد يكون يوميا في أعرق الدول الديمقراطية الأوربية والأمريكية، فالقضاء هناك ينظر بشكل مستمر في قضايا من هذا النوع، وغالبا نتيجتها إما البراءة أو الغرامة المالية، ونادرا ما تكون النتيجة السجن إلا في حالات تتعلق بأمن الدولة وتسريب معلومات حساسة لدول أجنبية. لذلك فإنه من المهم ملاحظة أن قضية احتجاز الزميلين المرفوضة من طرفي، قد استغلت من قبل فريق (اللطّامين والنواحين) لتسجيل مواقف تلفزيونية فقط. ويبدو أن القضاء قد أدرك أن قرار احتجازهما كان متسرعا بدليل أنه قبل الانتهاء من كتابة هذه المقالة قد صدر قرار الإفراج عنهما بكفالة لحين الانتهاء من دراسة القضية قضائيا، وهذا ما يدلل على أن الحكومة الأردنية وأجهزتها لا علاقة لها بالقضية.

تفجيرات موفق محادين

وكانت بداية قضية الاحتجاز هي التفجيرات التي أعلنها الكاتب موفق محادين في برنامج “ما وراء الخبر” في فضائية الجزيرة يوم السابع عشر من يناير 2010، في الحلقة التي قدمتها “جمانة بنور”: بعنوان” جدل حول التعاون الأمني الأردني الأمريكي “، وفيها أعلن موفق محادين مواقفه التي ردّ عليها أيضا الكاتب الأردني جميل النمري، ومما قاله موفق محادين : ” من المؤسف أن الأردن بعد أن فقد دوره على الجبهة الفلسطينية على جبهة التمثيل الفلسطيني، للأسف بدأ ينزلق للبحث عن أدوار إقليمية أخرى، وللأسف أيضا دخل فيما يمكن تسميته بالاستثمار في الإرهاب، هذه المسألة لا تتعلق بموقف أو بحادثة محددة، لا نريد أن تصبح نهجا وقد أصبحت كذلك نهجا تقوم عليه الآن كل السياسة الرسمية على الصعيد السياسي والاقتصادي إلى آخره، الاستثمار في الإرهاب لا يليق بدولة أية دولة بصرف النظر عن أية اعتبارات أخرى “. ومن أخطر ما قاله محادين في البرنامج أيضا : ” الحكومة الأردنية كما كثير من الحكومات العربية هي التي دربت وهي التي أمنت وصول مئات بل ألاف الذين تسميهم الآن إرهابيين إلى أفغانستان أيام ما يسمى بالجهاد الأفغاني ضد الاتحاد السوفييتي، قسم من هؤلاء هم نعم صناعة أردنية وصناعة عربية وصناعة دولية “.

آراء تستدعي النقاش

هذه الأراء بتفاصيلها لمن سمعها في برنامج فضائية الجزيرة، تستدعي النقاش الجاد الموضوعي لما ورد فيها من مغالطات ومبالغات أهمها : ماذا يعني هذا المصطلح الفضفاض “الاستثمار في الإرهاب “؟. هل صحيح أن الحكومة الأردنية تستفيد من الإرهاب في أي بلد في العالم كي تستثمر قدراتها وإمكانياتها فيه؟. وكيف يكون الاستثمار والاستفادة من قتل الآخرين كما يحدث في العراق وباكستان وأفغانستان، خاصة من طرف الدولة الأردنية التي من مصلحتها القومية والاقتصادية الاستقرار خاصة في الجارة العراق، وكيف تستثمر الحكومة الأردنية الإرهاب في مجال الاقتصاد كما يدّعي محادين؟. هذه أشبه بفزورة مستعصية على الحل والفهم، فأية فوائد أو عوائد اقتصادية تأتي للأردن من الإرهاب في العراق وأفغانستان وأية بقعة في العالم؟. مع أن المنطق والتحليل السياسي يقول أن الاستقرار في العراق وغيره هو الذي يؤدي إلى فوائد اقتصادية للأردن من خلال تدفق الصادرات والاستثمارات، لذلك فإطلاق هكذا مقولات بشكل عشوائي لا يخدم إلا الإرهاب والإرهابيين أنفسهم. وهل ينسى الزميل موفق محادين أن بلده الأردن قد عاني من هذا الإرهاب خاصة في تفجيرات الفنادق الثلاثة، تلك العملية الإرهابية بامتياز وعار شديدين في نوفمبر 2005 التي راح ضحية إرهابها حوالي خمسة وستين قتيلا أردنيا ومائة وخمسين جريحا، كلهم مواطنون مدنيون لا علاقة لهم بالسياسة والإرهاب، وكان من بينهم المخرج السوري العالمي مصطفى العقاد. وبالنسبة للمجاهدين الذين حاربوا الاتحاد السوفييتي بقيادة أسامة بن لادن، فهذا إن كان عيبا وعارا فهو على أسامة بن لادن وقاعدته وليس الأردن أو أية دولة أخرى، فإذا كان بعض الزملاء يبكون ويترحمون على الاتحاد السوفييتي، فلماذا ينسون دور قاعدة أبن لادن عميل المخابرات المركزية الذي قامت قاعدته بالمجهود الأساسي في قتال السوفييت وسقوط الاتحاد السوفييتي، فكيف يتحول هذا العميل آنذاك في نظرهم إلى مجاهد اليوم ؟. أسئلة تحتاج لإجابة من موفق محادين وسفيان التل، خاصة أن الزميل محادين اليساري الوطني يوزع شهادات الاستشهاد كما يحلو له، فهو يقول في البرنامج المذكور: “… إن عملية خوست التي ذهب فيها ضابط أردني واستشهد فيها همام البلوي… “. الضابط الأردني من وطنه وبني قومه ” ذهب ” أما الإرهابي قاتله ف “استشهد “.

 وكيف فقد الأردن دوره الفلسطيني؟

وكذلك قوله أنّ بلده الأردن (فقد دوره على الجبهة الفلسطينية)، أعتقد أن هذه مغالطة كبيرة فلم يكن للأردن الرسمي أي دور محدد متفق عليه ليقول أنه فقده. الدور الأردني كان واضحا منذ إعلان المرحوم الملك حسين قرار فك الارتباط إداريا بالضفة الغربية عام 1988 بناء على رغبة فلسطينية وعربية لتعزيز ما أطلق عليه (الكيانية الفلسطينية)، وبعد ذلك أصبحت العلاقة مع السلطة الفلسطينية كعلاقة أية دولة عربية. وللزميل أن يتخيل أي دور مطلوب من الأردن إذا كانت مصر بكل ثقلها العربي والدولي عاجزة منذ أربعة سنوات أن تحقق مصالحة فلسطينية بين فتح وحماس، بسبب صراع الحركتين على السلطة والمناصب، ولبيس تقصيرا من مصر. ويكفي أن الأردن في الشأن الفلسطيني يعلن رسميا وشعبيا وحزبيا ونقابيا رفضه لمشروع الوطن البديل وفكرة ارسال قوات أردنية للضفة الغربية. لذلك فإن هذه الأقوال من الزميل موفق محادين حادت عن الصوا ب والمنطق، وكذلك بيان من أطلقوا على أنفسهم ” المبادرة الوطنية “، فلهم كل الحق في الدفاع عن الزميلين المحتجزين والتضامن معهما، وأنا أضم صوتي عاليا للتضامن معهما، ولكن من حقي دون أن يرفعوا عليّ قضية أن أعتبر بعض فقرات بيانهم التضامني مجرد لغو عبر صف كلمات لا معنى لها في الواقع، ويكفي تصديرهم البيان بقولهم : (إن عملية اعتقال القادة الوطنيين تأتي في سياق الهجمة الصهيو-أمريكية، ودق طبول الحرب ضد سورية والمقاومة وايران وانعكاسها على الصعيد الوطني). بالله عليكم هل هذا منطق يقبله أو يفهمه أستاذ جامعي أو طالب في الابتدائي ؟. تصوروا أن اعتقال موفق محادين وسفيان التل كان ضروريا كمقدمة للهجوم على سوريا والمقاومة وإيران !!. آه الان فهمت لأن الزميلين المذكورين يمتلكان أسلحة دمار شامل، كانا سيستعملانها ضد من يهاجم سورية والمقاومة وإيران، لذلك فإن اعتقالهما سيحول دون تدمير من يهاجم الدول المذكورة.

 نعم أراء جدلية لا يوافق الجميع عليها وعلى طريقة التحليل التي استعملها موفق محادين، ولكنها تبقى في ميدان حرية الرأي التي تحتاج لرد ونقاش

وليس الاحتجاز والسجن

خاصة أنه لا يستطيع أحد ممن يعرفون موفق محادين أن يشككوا في وفائه وإخلاصه لوطنه وشعبه، وأنا ممن عرفوا هذا الصديق سنوات عديدة في العاصمة السورية دمشق قبل عام 1989، حيث لم تصدر عنه أية اساءة للوطن والبلد والشعب الأردني، بل كان نشطا في مجال “لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية في الأردن “، وهو المطلب الذي استجاب له بجرأة وشجاعة تواكب متطلبات العصر، المرحوم الملك حسين الذي بدأ الانفتاح الديمقراطي والتعددية السياسية والحزبية في نهاية عام 1989، ذلك الانفتاح والأفق الديمقراطي الذي أتاح للزميل موفق محادين ومئات من الناشطين السياسيين الأردنيين، أن يعودوا لوطنهم وعائلاتهم ويمارسوا كافة النشاطات الفكرية والحزبية والسياسية بأمن وأمان، مما أوجد في الأردن ما لا يقل عن أربعين حزبا أيا كان حجمها ومستوى تأثيرها. لذلك فالإساءة الشخصية للزميل موفق محادين مرفوضة بكل المقاييس خاصة ممن لم يبذلوا من أجل الحريات الديمقراطية في الأردن أية نسبة مما بذل موفق محادين، لذلك أشارك شقيقته تلك الصرخة التي أطلقتها في الاعتصام الذي نظمته النقابات المهنية والفعاليات الحزبية في محمع النقابات يوم الثالث عشر من فبراير، تلك الصرخة في وجه من أسمتهم (الأقلام المأجورة التي افترت كذبا على شقيقها)، وحسب معرفتي بمواقف موفق محادين السياسية والعملية اتجاه وطنه الأردن، أصرخ معها ب (أن موفق أردني أبا عن جد، كركي ابن كركي).

ويؤكد الملك عبد الله الثاني طوال السنوات العشر الماضية من ولايته على احترام حرية الرأي التي (سقفها السماء) مما يعني استيعابها لكافة الأراء التي أطلقها موفق محادين وسفيان التل وغيرهما، مما يجعل عملية احتجازهما من قبل مدعي عام محكمة أمن الدولة متسرعة، وتتناقض صراحة مع ما يؤكد عليه دوما الملك، لأن احتجاز كل مخالف لرأي آخر سيعني عند التطبيق أنه سوف يزج في السجون يوميا مئات أو ألاف المواطنين. لذلك فإن قرارالإفراج عنهما الذي تمّ فعلا ليس من أجل حريتهما التي انتهكت فقط وهي مهمة وليس من حق أحد انتهاكها بسبب رأي، ولكن من أجل المحافظة على المسار الديمقراطي في الأردن الذي يتميز فعلا عن العديد من الدول العربية. كان من المهم منذ بداية القضية أن تأخذ وقتها في المحاكم لسماع وجهة نظر المتضررين من المتقاعدين العسكريين وردود الزميلين على ذلك، وكان من المحتمل أن تنتهي القضية بتراض الطرفين أو بحكم قضائي ما دون اللجوء مسبقا لاحتجازهما، وهذا ما تداركه القضاء بقرار الإفراج عنهما.

 وفي هذا السياق من المهم أن تنظر منظمات حقوق الإنسان الدولية عند مراجعتها لملفات حقوق الإنسان في أية دولة للقضايا من مختلف جوانبها، أي الطرف الذي أدلى بأقوال ضمن حرية التعبير أوصلته للقضاء، والطرف الذي لجأ للقضاء، كي لا تكون النظرة أحادية تتناسى حقوق طرف من الأطراف، وينتج عنها تقارير غير حيادية، لأن من شأن ذلك ترسيخ مفهوم الديمقراطية الحقيقية التي تعني أن حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، أو أن الديمقراطية لا تعني مطلقا أن تسيء لآخرين عبر افتراءات غير منطقية.

حرية الرأي تصنع العظمة والقوة

من المهم أن نعرف أن الأوطان لا يدافع عنها سوى أحرارها، وأولويات الحرية هي حرية الرأي والتعبير، وهذا ما يفسر هذا الاستنفار النقابي والشعبي تضامنا مع الكاتب موفق محادين والدكتور سفيان التل، وإلا لماذا تجمهر واعتصم أمام مركز احتجازهما في الجويدة ما لا يقل عن مائة من الكتاب والصحفيين والشعراء والمهندسين، وكان عملا موفقا أن يسمح مدير المركز للمتضامنين جميعا بالدخول للمركز ومقابلة محادين والتل، ثم قرار القضاء بالإفراج عنهما لحين الانتهاء من نظر القضية قضائيا.

الحرية الدائمة لهما

ومن يعارض بعض أفكارهما وأنا واحد من المعارضين لبعض هذه الأفكار، فليناقش أفكارهما ويرد عليهما في الصحف والمجلات والفضائيات، وقد فعلت أنا سابقا في مقالتي (الأردن والإرهاب المحلي والدولي) في إيلاف بتاريخ السابع عشر من يناير 2010

وقام جميل النمري بمناقشة موفق محادين في نفس حلقة البرنامج المذكور، وطرح أراءا مناقضة لكل ما قاله محادين، وكذلك فعل جهاد المومني ردا على أطروحات سفيان التل في برنامج “بلا رقابة ” في قناة نورمينا الأردنية، وإلا فاللجوء للقضاء بشكل حضاري يعطي المسار الديمقراطي ترسيخا وديمومة.

 لذلك فالحرية الدائمة لمحادين والتل مسألة ضرورية للحفاظ على مستوى الحريات الديمقراطية في الأردن، و يستطيع الجميع إن تضافروا على القواسم المشتركة، وتناسوا الخلافات الشخصية والعشائرية أن يجعلوا شعار (حرية سقفها السماء) قيد التنفيذ الحقيقي دون العودة للمحاكم التي لا تليق بالكتاب والمشتكين إلا في حالات خطيرة تستدعي ذلك. إن حرية موفق محادين وسفيان التل وكل الكتاب والصحفيين والناشطين السياسيين مسألة تتعلق بكرامة الأردن وموقعه الذي نتمنى في العالم، وكذلك احتراما لتعهدات الملك عبد الله الثاني التي أعاد التأكيد عليها مرارا و منها لقاؤه مع رؤساء تحرير الصحف الأردنية في العاشر من نوفمبر 2008 عندما أكدّ بوضوح (إنّ توقيف الصحفيين في قضايا النشر لن يتكرر في الأردن… إنني لا أرى أي سبب لتوقيف صحفي لأنه كتب شيئا)، وأعتقد أن الذين اتخذوا سريعا قرار الإفراج عنهما تذكروا تعهد الملك هذا، ونأمل أن لا يتكرر هذا الاحتجاز مرة أخرى بحق أي كاتب أو ناشط سياسي، فلكل شخص الحق في حرية التعبير وكل الحق لأي متضرر اللجوء للقضاء.

 ( إيلاف ) – تم النشر بالتنسيق مع الزميل الكاتب